لبنى عمر تأخذكم لثلاثينيات القرن الماضي لتشارككم قصة مقهى القاهرة وحياة المجتمع المسلم في كارديف
"وقعنا في الحب من المحادثة الأولى"
هذا ما قالته أوليف معبرةً عمّا حدث أمام مقهى القاهرة عندما تحدثت مع الشّيف اليمني سلمان الذي كان يعمل في المقهى
لم تدرك أوليف، ذات الخمسة عشر عامًا أنها ستجِد الحب عندما انتقلت من وادي روندا في جنوب ويلز إلى كارديف، العاصمة التي تبعد عن لندن 200 كم كي تعمل كممرضة. عندما خرج على سلمان ليلًا من المقهى كعادته لاستنشاق الهواء وجد أوليف تائهة، وعندما سألتهُ عن طريق العودةِ لشارع كوين تبادلا أطراف الحديث وبدأ الإعجابَ ينمو بشكل كبير بينهما في دقائق. لم يقف الاختلاف العرقي أمام حب سلمان وأوليف كحال كثيرٍ من سكان المدينة بالأخصّ منطقةُ خليج تايجر، التي تعرف الآن باسم بوتاون حيث كان الزّواج بين الأعراق منتشرًا مع ازدياد المهاجرين إليها.
يقول داوود أحد أبناء أوليف أن سكّان منطقة خليج تايجر -كما كانت تسمى آنذاك- كانوا يعيشون في ائتلافٍ لا نظير له، وقد كانت وجهةً للهجرة لأكثر من خمسين دولةٍ منذ عام 1800م حتّى الحرب العالمية الثانية، باحثين عن سُبلٍ لحياة كريمة
يعتبر مجتمع كارديف أكثر المجتمعات البريطانية اختلاطًا حتى الآن، ويرجع ذلك لثمانينيّات القرن التاسع عشر عندما ازدهرت تجارة الفحمِ وأصبحت محط أعين كل المهاجرين، حتّى غدت منطقةً غنية بشكل مبهر وأُطلق عليها "كينغ كول" وحظت المدينة باهتمام العديد من رجال الأعمال حتّى أنه لأول مرة في التاريخ تتم صفقة بمليون جنيهٍ استرليني كانت في كارديف في مبنى بورصة الفحم في عام 1904م الذي تحول بعد ذلك لفندق سياحي
ونتج عن هذا الازدهار المادّي، ازدهارٌ من نوع آخر. يقول المؤلف كوردل "وُصِفَ خليج تايجر في عام 1911م أنه من أكثر الأماكن بهجة وتنوعًا على وجه الأرض، حيث كانت موسيقى السول الكاريبية تعزف في كل مكان"، ومع زيادة الطلب على العمّال في المنطقة، أصبح الناس من كل حدب وصوب يهاجرون إلى ميناء كارديف. وتدريجيًا نمت تلك البذور المختلفة في أراض كارديف الخصبة لينتج عنها مجتمع لم يشهد العالم في اختلاطه وانسجامه مثيل له
هاجرت عائلة سلمان مثل كثير من العائلات من اليمن إلى كارديف في القرن الماضي، حتى صارت اليمن على رأس قائمة البلاد التي هاجر أهلها منقبين عن الأمل في كارديف خصوصًا بعد حفر قناة السويس في عام 1869م بعد الاحتلال البريطاني لعدن عاصمة اليمن في عام 1839 حتى عام 1967 لثراء أرضها بالفحم
قد يكون التغيير الذي طرأ على المدينة كبير، ولكن كل من أتى إلى ويلز ساهم في تشكيل ثقافتها. فمثلًا لم تكن ويلز لتعرف الكاري لولا مطعم أستاذ علي ولم يكن ليقام مكان لصلاة للمسلمين لولا مجيء البحّار الصومالي الذي قرر بناء مسجد نور الإسلام. يقول المؤلف والمؤرخ نيل سينكلير عن خليج تايجر: "لا يهم ما هو لون بشرتك ولا دينك ولا من أين أنت، هنا الكل يحيا في سلام، وليس هنا أحد يقفل الباب في وجه الآخر".
في منتصف الثلاثينيات، باتت منطقة خليج تايجر مثالًا على التناغم والحب في العالم أجمع حيث كانت وطنًا ل 30,000 بحار من جميع أنحاء العالم، أغلبيّتهم كانت العرب والأفارقة والصوماليين والكاريبيّين. ورغم أن المنطقة غدت بعد ذلك فقيرة نسبيًا، لكنها كانت تتسع لكم هائل من الثراء الثقافي والتاريخي.
يصف سينكلير في مقابلة له شوارع خليج تايجر في طفولته : "كان كل سكان الحي من خلفيات وعرقيات مختلفة يجتمعون في المناسبات الدينية مثل الأعياد وشهر رمضان. كانوا يسيرون في الشوارع بجانب العرب في ملابسهم التقليدية ويفرّقون الطعام على المارّة مثل الدجاج بالكاري والأرز خاصة في العيد. ورغم أننا نعتنق المسيحية ولكن كنا نذهب للمدرسة العربية مع أصدقائنا العرب والمسلمين كفسحة! "
في عام 1939م قام الكاتب هاورد سبرينج بزيارة للحي ووصف ما رآه قائلاً: "عندما تسير في الحي تجد على جانبي الطريق أعلام من كل الدول ترفرف أمام البيوت وعندما تنظر في واجهات المحلات تقرأ أسماء من كل اللغات."
لنعد إلى قصة سلمان وأوليف، تزوج الحبيبان بعد ثلاثة أسابيع من أول يوم تقابلا فيه بعد مواجهة الصعوبات وأصبحت تعمل مع زوجها في المقهى يقدمان الطعام للبحارة الجائعين المتعَبين بعد يوم عمل طويل. وعندما تمت 16 عامًا انجبت خمسة أطفال وقبل أن تبلغ الواحد والعشرين عامًا أصبحت أم لعشرة من سلمان و14 طفل متشردين بدون مأوى! لم يكن مقهى القاهرة محض مقهىً بل كان أيضًا مطعم ومدرسة ومصلى، أي مؤسسة بمعنى الكلمة ومكان يجتمع فيه سكان الحي بكل اختلافاتهم.
وفي عام 1950م عنما زار الشاعر الوليزي جوين توماس قال إنه عندما نرى طفلين أحدهما أبيض والثاني أسود يلعبان معًا، تزدهر المعاني الإنسانية وتبلغ قمتها وتروض مشاعر الكبرياء والخوف"
لكن البحر لم يُخلق ليظل ساكنًا، فلابد من ارتفاع الموجات واحدة وراء الأخرى ولم تسلم المدينة من موجاته. هذا التناغم لم يحلو لكل ساكني المنطقة خاصة ذوي البشرة البيضاء. هناك أشخاص لم تكن تريد أن يظل الحي ذراعيه مبسوطتان لكل الأعراق. تعرضت المنطقة للهجوم من الكثير من كارهي السلام حتى أنه مُنع فيها الزواج بين الأعراق لفترة!
يقول سينكلير واصفًا الموجة الأولى: "في يوم 11 يونيو 1919م هاجم الجنود القدامى الذين حاربوا في الحرب العالمية الأولي من كل مكان في كارديف وجنوب ويلز سكان خليج تايجر". ويقول كوردل: " أرادوا شنق وحرق كل سكان الحي حتى البيض منهم. ولكن سكان كارديف لم يظلوا مكتوفي الأيدي آملين في حماية الشرطة لهم، أقيمت اللجان الشعبية في شوارع المدينة وظلوا يحملون السلاح لمدة ثلاثة أيام
وصفت أخبار جنوب ويلز هذا الاعتداء ب "سود يطارَدون من قِبل حشد غاضب "وأيضًا ب "حرب الغوريلات".
رغم أن الشهود العيان قالوا إن ستة أشخاصٍ قد وافتهم المنيّة، إلّا أن التقارير الرسمية كانت لها رأي آخر، حيث أسفر الهجوم عن ثلاث قتلى، واحد أسود البشرة وأثنين من البيض! وبعد ذلك تمت الاعتقالات التي كانت كلها من السود المقيمين في المنطقة ولم يعتقل أي شخص أبيض
ولا نستطيع أن نذكر الهجوم على كارديف بدون ذكر رئيس الشرطة جايمس ويلسون الذي كان يرى أن زواج الرجال العرب والأفارقة من السيدات ذوات البشرة البيضاء "عمل غير أخلاقي" على حد وصفه، حتى إن كانوا وُلدوا وتربوا في بريطانيا. وفي عام 1929م قرر جايمس أن ينهي ذلك العمل الغير أخلاقي من وجهة نظره بإصدار قانون مماثل للقانون الذي أُصدر في جنوب أفريقيا الذي يمنع الزواج بين الأعراق. تلك كانت الموجة الثانية.
الموجة الثالثة أتت بعد ثلاثين عامًا عندما قررت سلطات كارديف التخطيط لتدمير المنطقة للأبد عام 1960م، فقد تركت المباني لتتعفن بدون أي ترميم أو تصليح حتّى تآكلت المباني وصارت قديمة وغير صالحة للسكن حتى يتم تبرير التدمير الذي حدث بعد ذلك، فقد أخليت البيوت من سكانها وسويت المباني بالأرض. قامت السلطات بتدمير خمسة وأربعين شارعًا يعود تاريخ إنشائهم للقرن التاسع عشر. وظل التدمير مستمرًا حتى امتلأت قناة جلمرشاير التي تقع المدينة على ضفافه بالأسمنت
بعد هذا التخريب الثقافي الغير مسبوق، أقيمت العمارات الأسمنتية الخالية من الحياة. وبين عامي 1960م و1966م بُني برجين من 16 طابق وأُجبر سكان المنطقة على الانتقال للعيش في تلك المباني الحديثة
اليوم لم يعد هناك أي مبنى من مباني كارديف القديمة بتصميمها الفيكتوري وبُدلت المقاهي والبيوت ذات الطابع التاريخي والذي يحمل هوية المدينة بمطاعم الأكل السريعة والبيوت الفخمة التي لا يتعرف على ملامحها السكان المحليون ولا يتحملون أتعابها. ليس هناك أثر لكارديف القديمة سوى في ثلاث شوارع من الشوارع الأصلية
يقول أدريان جوتر المصمم العمراني مستشار عن مشروع تطوير كارديف "الآن لم يعد هناك سوى القليل من كارديف الأصلية في كارديف الجديدة". ويشاركه سينكلير الرأي بقوله: "ما حدث في خليج تايجر يعد أشنع صفحات تاريخ ويلز"
يقول البشير إدريس الذي وُلد في السودان وعاش معظم حياته في خليج تايجر واصفًا الجدار الذي أقيم حول المنطقة: " نحن نسميه جدار برلين، على الناحية الثانية منه رصيف الميناء الأطلنطي، في تلك الناحية تسكن الطبقة الغنية نسبيًا من سكان حي بوتاون. نحن هنا نشعر بالتهميش والعزل العنصري بسبب هذا الجدار."
واستمر المشروع لعام 2012م حيث أنفقت الملايين هباءً والذي وصفه جوتر بأنه " أسوأ مثال للتجديد العمراني في بريطانيا". ورغم تطوير المنطقة، وصلت نسبة فقر الأطفال لـ 46% في عام 2019م ومع ذلك رفض سكان المنطقة العمل في المشروعات الجديدة وسلسلات المطاعم المشهورة.
لطالما كانت وستظل كارديف رمز الإنسجام الديني والعرقي والسكني، ويتذكر سينكلير قول والدته : "كانت أمي تقول إن منظمات عصبة الأمم كانت من الممكن أن تتعلم شيء ما من خليج تايجر".
ذهب سلمان وذهبت أوليف وذهب معهما مقهى القاهرة ولم يعد له أثر، ذهبت الليالي الطويلة المليئة بالصخب والموسيقى والغناء، ذهب خليج تايجر ولكن سيظل صدى الموسيقى الكاريبية وضحكات السكان يجوب الشوارع في الليل والناس نيام ليبث الروح في الشوارع وسيظل سكان المنطقة يتذكرون أجدادهم ويعملون على إحياء تراثهم.
ليس هناك ما يصف مشاعر سكان الحي ومدى تعلقهم بروح المدينة الفقيدة وعدم تأييدهم لما حدث من تدمير أكثر من كلمات سينكلير في قصيدته تايجر الحلوة
"عندما سيأتيني الموت، سأقول له امنحني بعض الوقت لأقضي ليلة واحدة في خليج تايجر".
إذا أعجبك المقال، لا تنسى أن تشاركنا رأيك وتدعمنا على وسائل التواصل الإجتماعي